الثلاثاء، 27 سبتمبر 2022

نَشأةُ النَّحوِ وأطوارُهُ:

 

النَّشأةُ:
كانَ لظهورِ اللَحنِ في مراحلَ متقَدِّمَةٍ مِن تَاريخِ العَربيَّةِ في العصرِ الإسلاميِّ، وانتشارِهِ معَ دخولِ الأمَمِ الأخرى في الإسلامِ، أثرٌ كبيرٌ في نشوءِ النَّحوِ، وإدراكِ الحاجةِ إلى الاهتمامِ باللغةِ عامَّةً والنَّحوِ خاصَّةً، والشواهدُ لظُهورِ النَّحوِ كثيرةٌ من زمنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مرورًا بزمنِ الخُلفاءِ الراشدينَ وليسَ انتهاءً بالعصرِ الأُموِيِّ، قالَ أبُو الطَّيبِ: "واعلَمْ أنّ أوَّلَ ما اختلَّ من كلامِ العربِ فأحوجَ إلى التَّعلُّمِ الإعرابُ؛ لأنَّ اللّحنَ ظهرَ في كلامِ الموالي والمُتَعَرِبينَ من عهدِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ؛ فقد رَوينَا أنَّ رجُلًا لَحَنَ بحضرَتِهِ فقالَ: "أرشِدُوا أخاكم فقد ضلَّ". وقالَ أبُو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ: لأنْ أقرأُ فأُسقِطَ أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أقرأَ فألحَن" (أبو الطيب اللغوي، 1430هـ، 5). وكتُبُ اللغةِ زاخرةٌ بنماذجَ كثيرةٍ لمظاهرِ اللحنِ أغفلتُها اختصارًا، فقد بدأَ النَّحوُ أوَّلَ مرَّةٍ على يدِ أبِي الأسودِ الدُؤلِيِّ على أرجحِ الأقوالِ (أبو الطيب اللغوي، 1430هـ، 5؛ الطنطاوي، 2005م، 22)، وأطلقَ عليهِ اسمَ (النَّحو) تيَمُنًا بقولِ عليِّ بنِ أبِي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ حينَ رأى صنيعَ الدُؤَلِيِّ: "مَا أحسنَ هذا النَّحوَ الذي نَحوْتَ!"(الأنباري، 1985م، 19). وعلى الرَّغمِ مِن وجودِ أسبابٍ أخرَى دينيَّةٍ وقومِيَّةٍ واجتماعيَّةٍ (الحلواني، 1979م، 17-31)، أدَّتْ إلى العنايةِ بالنَّحوِ وتقعيدِهِ إلَّا أنَّ اللحنَ يكادُ يكونُ السببُ الأولُ والأهمُّ لذلكَ. 
أطوارُ النَّحوِ:
بعدَ أنْ وُضِعَتْ اللَبِنَاتِ الأُولَى للنَّحوِ علَى يدِ أبِي الأسوَدِ الدُؤَلِيِّ، بدأتْ مرحَلَةُ التأسيسِ لِلنَّحوِ على يدِ النَّحويينَ الذينَ عاصَرُوهُ والذينَ جاؤُوا بَعدَهُ، وظلَّ النَّحوُ يسيرُ على وتيرةٍ مُتصاعِدَةٍ مِنَ الدِّراسةِ والتأليفِ في البصرةِ وحدَها ما يُقاربُ مائةَ عامٍ، وكانَ الكوفِيُّون حينَها عاكفينَ على حفظِ الأشعارِ والأخبارِ وروايتِها وتناقلِ النَّوادرِ. ثمَّ نَشَأَ بينَ الفريقينِ تنافُسٌ وتصارعٌ على الغَلَبَةِ والسَّبقِ أعقَبَ التَّعاونَ الذي رامَ استكمالَ قواعدِ النَّحوِ، فكانَ نتيجةَ هذا التَّنافُسِ أن ظهرَ المذهبُ الكوفِيُّ منافِسًا قَوِيًّا للمذهبِ البصرِيِّ، ونشَأ تَبَعًا لذلكَ الاختلافُ بينَ أعلامِ المذهبينِ، فأصبحتْ البصرةُ والكوفةُ موطنينِ لمذهبينِ عظيمينِ في النَّحوِ العربِيِّ، وكانَ كُلُّ مذهبٍ بعدَهما تبعًا لهُمَا من جهةٍ ما. ثُمَّ انتقلَ بعضُ علماءِ المذهبينِ إلى بغدادَ وهناكَ التقى رجالُ المذهبينِ، وخلطَ بعضُهم شيئًا ممَّا عندَ الآخرِ، فنَشَأَ عن ذلك مذهبٌ جديدٌ عُرِفَ بالمذهبِ البغداديِّ، وظلَّ هذا المذهبُ قائمًا إلى أنْ احتلَّ المغولُ بغدادَ وتمزَّقتِ الدَّولةُ الإسلامِيَّةُ شرَّ مُمَزقٍ، وحينَها بدأ العلماءُ يرتحلونَ منها إلى الأمصارِ الأخرى الآمِنَةِ مثلِ: مصرَ والشامِ وبلادِ المغربِ والأندَلُسِ قبلَ سقوطِها، فظهرتْ مذاهبُ ومدارسُ نحوِيَّةٌ جديدةٌ في تلك الأمصارِ، ولكنَّ هذه المذاهبَ اعتمدتْ في نشأتِها على الاختيارِ والتَّرجيحِ بينَ آراءِ المذهبينِ الأوَّلِيَّينِ، فلم يكنْ لهُم دورٌ في تطويرِ النَّحوِ أكثرَ ممَّا كان لِمَن سبقَهُم، بل عُرِفَ عنهم مُحَاوَلةُ تيسيرِهِ وتبسيطِهِ للدَّارسين (الطنطاوي، 2005م، 30-31؛ وفاخر، 2017م، 19-20). وقد كان لنشوءِ النَّحوِ ونضوجِهِ أربَعةُ أطوارٍ توزَّعتْ بينَ المذهبَينِ الكبيرينِ، وهِيَ:
1 – طورُ الوضعِ والتَّكوينِ، وقد كانَ هذا الطَّورُ بَصْريًّا بامتيازٍ، ويمتدُّ مِنْ زمنِ أبِي الأسوَدِ الدُؤَلِيِّ إلى أولِ زمنِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ وانتهى كلُّه في العصرِ الأُمويِّ، وشَملَ طبقتينِ بعدَ الدُّؤليِّ من طبقاتِ البصريِّينَ بحسبِ بعضِ التقسيماتِ (الطنطاوي، 2005م، 32)، وخمسَ طبقاتٍ بحسبِ تقسيمِ الزَّبيديِّ في كتابهِ طبقاتِ النَّحويينَ واللغويِّينَ الذي اعتمدتُه في هذا البحثِ، وهذه الطبقاتُ الخمسُ كانت على مرحلتينِ: مرحلةِ أوائلِ النُّحاةِ الذين هم في أغلبِهِم تلاميذُ الدُّؤَليِّ، وكانت مرحلتُهُم تتصفُ بوضعِ القواعدِ وتأصيلِها وتبويبِها ولم تشهدْ ظهورًا للقياسِ ولا للتصنيفِ المتكاملِ سوى نُتَفٍ هنا وهناكَ. وكان ظهورُ القياسِ والتَّصنيفِ في المرحلةِ التَّاليةِ، وهي مرحلةُ كبارِ النَّحويِّينَ الذينَ عُرِفَ بِهمُ المذهبُ البصريُّ وعلى أيديهم تأسسَ النَّحوُ، وهُم كُثُرٌ قياسًا بالمرحلةِ السَّابِقةِ، وفي هذه المرحلةِ وُضِعَتْ قواعدُ جديدةٌ واستُخرِجَتْ ضوابِطُ كثيرةٌ من حركةِ النِّقاشِ العميقةِ، ومِنْ تَتَبُعِ النُّصُوصِ القديمةِ، ثُمَّ تَبِعَ ذلكَ اختمارُ فكرةِ التَّعليلِ وتفريعُ القياسِ على يدِ عبدِ اللهِ بنِ أبي إسحاقَ وعيسى بنِ عمرَ وهُمَا أعجميَّانِ، واستَمَرَّتْ حركةُ الدِّراساتِ والبحثِ النَّحويِّ حتَّى ملأتِ الكتبَ واستنفدتِ المدادَ(الطنطاوي، 2005م، 27-29).
2 – طورُ النُّشوءِ والنُّمُوِّ، وهو طورٌ مشتركٌ بينَ البصريِّينَ والكوفيِّينَ، وقد بدأَ هذا الطَّورُ مِنْ عصرِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ وسيبويهِ حتَّى مطلَعِ القرنِ الثَّالثِ الهجرِيِّ عندَ رحيلِ الأخفشِ والفرَّاءِ، وشَهِدَ ثلاثَ طبقاتٍ من البصريِّينَ وثلاثًا منَ الكوفيِّينَ، واتَّسمَ هذا الطَّورُ بنشوءِ النَّحوِ واستقامتِهِ على سُوقٍ قويَّةٍ، حيثُ اجتهدَ علماءُ المدرستينِ في التَّقصِي والاستقراءِ في كلامِ العربِ، وأعمَلُوا فيهِ فكرَهم لتَتَبُعِ الشَّواهِدِ واستخراجِ القواعدِ والاستدلالِ لهَا بشواهِدِهم على ما استنتجوا منها من قواعِدَ، واتَّسمَ أيضًا ببروزِ نحويينَ كبارٍ أخذوا على عاتِقِهم التَّفَرُغَ لهُ والاهتمامَ بهِ حتَّى بلَغَ ذُروَتَهُ، ومِنْ أبرزِ هؤلاءِ: الخليلُ وسيبويهِ والأخفشُ؛ والكسائيُّ والفرَّاءُ، وكان أكثَرُهُم مِنَ العَجمِ كمَا سيظهرُ، واتَّسمَ هذا الطَّورُ أيضًا بالاهتمامِ بالدِّراساتِ النَّحويَّةِ في الغالبِ ممزوجةً بالدِّراساتِ الصرفيَّةِ أحيانًا، واتَّسَمَ أيضًا بظُهورِ المؤلفاتِ النَّحويَّةِ واللُغويَّةِ المُعجمِيَّةِ ذاتِ القيمةِ الكبيرةِ في تاريخِ العربيَّةِ، وكانتْ أبرزُ سماتِ هذا الطَّورِ هو تَلمَذَةُ نُحاةِ الكوفةِ على يدِ نُحاةِ البصرةِ ونَشْأتُهُم تحتَ رعايَتِهم ثُمَّ استقلالُهُم (فاخر، 2017م، 25-28).
3 – طورُ النُّضُوجِ والكمالِ: وهو طورٌ مُشتَرَكٌ بينَ البصرِيِّينَ والكوفِيِّينَ أيضًا، وقد بدأ هذا الطَّورُ مِنْ عهدِ أبي عُثمانَ المازنِيِّ البصرِيِّ، ويعقوبَ بنِ السِّكِّيتِ الكوفِيِّ، إلى آخرِ عصرِ المُبَرِّدِ البصرِيِّ، وثعلبٍ الكوفِيِّ، وقد استغرقَ طبقةً مِنْ كُلِّ مدرسةٍ، وقرنًا مِنَ الزَّمنِ هو القرنُ الثالِثُ الهجريُّ (الطنطاوي، 2005م، 39). ومِنْ أبرزِ سماتِ هذا الطَّورِ: أنَّه كانَ غايَةَ الكمالِ للنَّحوِ ونهايَتَهُ في التَّنَافُسِ، وكان علماؤُهُ خاتمةَ أئمَّةِ الاجتهادِ والبحثِ والتَّنقيبِ في النَّحوِ، حيثُ أكمَلُوا ما فاتَ السَّابقينَ وشَرَحُوا ما أجمَلُوا وأكمَلُوا وضعَ الاصطِلاحاتِ وهَذَّبُوا التعريفاتِ، وأوَّلُوا وخرَّجُوا وزادُوا في الأمثِلَةِ والشَّواهدِ، وظلَّت مُصنَّفَاتُهم شاهدةً على جهدِهِم إلى اليومِ. وفي هذا الطَّورِ أيضًا استقلَّ علمُ الصَّرفِ عنِ النَّحوِ وحظِيَ بتأليفٍ مُستَقِلٍّ وبرزَ فيهِ علماءُ أفذاذٌ. ومن سِمَاتِ هذا الطَّورِ أيضًا ظُهورُ موسوعاتٍ كبيرةٍ في اللُغةِ والأدبِ وَصَلَ بعضٌ منها وفُقِدَ الآخرُ. وفي هذا الطَّورِ بلغَ الخِلافُ بينَ المدرستَينِ أوجَّهُ وزادتْهُ المُنَاظراتُ سعيرًا واشتعالًا يُغَذِّيها الخلفاءُ والأمَراءُ حينًا، والعداوةُ والبغضاءُ والعصبيَّةُ حينًا آخرَ، وانتَهتْ هذه المُناظراتُ بهجرةِ الكثيرِ مِنْ رُؤساءِ المِصْرَيْنِ وعُلَمَائِهِمَا إلى بغدادَ واستقرارِهِم فيها بعدَ الاضطراباتِ التِي حلَّتْ بالبصرةِ، فكانَ هذا بابًا لطورٍ جديدٍ يُؤذِنُ بامتزاجٍ وتَزَاوُجٍ بينَ المدرسَتَينِ (فاخر، 2017م، 30-32).
4 – طورُ التَّرجيحِ والبَسطِ في التَّصنيفِ: وهذا الطَّورُ هو ثمرَةُ كُلِّ الأطوارِ السَّابِقةِ وفيهِ تَلفِيقٌ لمَذهَبَيّ المدرستينِ الكبيرتَينِ في النَّحوِ، ولكِنَّهُ تجاوَزَهُمَا في المكانِ والزَّمانِ، فقد كانَ مركزُهُ الأساسُ هو بغدادَ، ثُمَّ توَسَّعَ وانطلقَ إلى آفاقٍ جديدةٍ في الأندَلُسِ ومصرَ والشَّامِ، وقد عاشَ في بغدادَ ثلاثَةَ قُرونٍ ونصفَ القرنِ حتَّى سُقُوطِهَا على يَدِ التَّتَارِ، وعاشَ في الأندَلُسِ قرنينِ هما السَّادسُ والسَّابعُ الهجريَّانِ إلى أنْ سقطتْ في يدِ الصليبيِّينَ، وأمَّا في مِصرَ والشَّامِ فقد عاشَ ثلاثةَ قُروُنٍ أعقَبَتِ انهيارَ العلمِ في بغدادَ وهيَ السَّابعُ والثَّامنُ والتَّاسعُ (فاخر، 2017م، 33)، ولهذا الطَّورِ رجالُهُ وعلماؤُهُ مِنَ العَرَبِ وغيرِ العربِ، وأهمُّ سِمَاتِ هذا الطَّورِ هو المُفَاضَلَةُ بينَ آراءِ المدرستينِ الكبيرتَينِ واختيارُ ما أُثِرَ منهما، (ولقد أمعَنُوا في هذا الاختيارِ، فَاصطَفَوْا مسائلَ ذاتَ بالٍ مزيجًا منَ المذهبينِ، على أنَّهُم قد أسْلَمَهُم هذا الاستقراءُ البالِغُ خلالَ تلك الأيَّامِ إلى العُثُورِ على قواعدَ أخرى مِنْ تِلقَاءِ أنفُسِهِم لا تَمُتُّ بصِلَةٍ إلى المذهبينِ تَوَلَّدَتْ لهم مِنِ اجتهادِهِم قِيَاسًا وسَمَاعًا) (الطنطاوي، 2005م، 151)، وشَهِدَ هذا الطَّورُ الكثيرَ مِنَ المُصنَّفَاتِ الكبيرةِ والشُّرُوحاتِ المُطَوَّلَةِ لكُتُبِ السَّابِقينَ.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعانة الكفار على المسلمين

الملخص: من نواقض الإسلام التي يحكم بردة صاحبها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَ...