الثلاثاء، 27 سبتمبر 2022

النَّحوِيُّونَ الأعاجِمُ وأثَرُهُم في العَرَبِيَّةِ (بحث علمي في تاريخ اللغة العربية منشور في مجلة علمية)

النَّحوِيُّونَ الأعاجِمُ وأثَرُهُم في العَرَبِيَّةِ
زانایانی ناعەرەبی ڕێزمانی عەرەبی و کاریگەرییان لەو زمانەدا
The foreign grammarians and their impact on Arabic


ملخص:
كانت العربية ولا تزال لغة للمسلمين جميعا على اختلاف قومياتهم وألسنتهم، وهذا ما جعل الباب مفتوحا لدراستها على مصراعيه، ولكل الدارسين من مختلف القوميات، وقد شهدت على امتداد تاريخها جهودا عظيمة لعلماء أفذاذ من غير أهلها الأصليين، فأسهموا في وضع الأسس المتينة لدراستها، واكتشفوا بعض ظواهرها، ثم نشأ جدل حول دور هولاء العلماء قديما وحديثا، لذلك فقد حاولت في هذا البحث أن أسلط الضوء على دورهم، وأكشف جانبا من جهودهم العظيمة في أهم مدرستين لغويتين: البصرية والكوفية، متجاوزا المدارس الأخرى المشهورة تجنبا للإطالة واستغناء بأهمية هاتين المدرستين في تأسيس علم النحو والدراسات اللغوية المختلفة التي انبثقت منهما.

الرابط:

كتاب سيبويه، وأهميته في الدراسات النحوية.


قصة تأليفه



يظهر جليا لكل من يقرأ الكتاب أنّ سيبويه لم يضع لكتابه مقدمة ولا خاتمة ولم يسمه أصلا، ولو كان فعل ذلك لشاع وانتشر بين الناس لما حظي به من الشهرة والانتشار. وربما يكون هذا لأحد الأسباب الآتية:
vكان ينوي الرجوع إليه لإكماله .
vشغله شيء آخر عنه .
vكتبه على عجل .
vفقد منه شيء لسبب ما.

vربما يؤيد السبب الأخير خبر زواجه.
vألف شطرا من كتابه في حياة شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي.

             وقد يؤيد هذا الأخير ما رواه ابن قاضي شهبة أنّ سيبويه تزوج جارية بالبصرة وأنّه قد انشغل عنها بتأليف كتابه وتصنيف أوائل أبوابه في خرارات وقطع جلود، فكان منقطعا إليه منشغلا عنها وهي مشغوفة بحبه، فترصدت خروجه إلى السوق لبعض حاجته فانتهزت الفرصة ، فأخذت جذوة من نار فألقتها في الكتب حتى احترقت، فلما رجع سيبويه ورأى كتبه أثرا بعد عين أغشي عليه أسفا، ثمّ أفاق فطلقها. ثمّ عاد فأنشأ الكتاب من جديد وعن أبي علي أنه قال: وذهب منه علم كثير أخذه عن الخليل فيما أحرق له . ففي هذه الرواية إن ثبتت تفسير لما يُرى في الكتاب من نقص وعجلة في تسمية الأبواب وتوزيع الموضوعات، ولعله سبب أيضا لتأخير ظهور الكتاب إلى ما بعد وفاته.

انتشار الكتاب

ورث أبو الحسن الأخفش علم سيبويه وكتابه، وربما حاول الاستئثار به ونسبته لنفسه، فتفطن لذلك أبو عمر الجرمي، فبذل له المال ليقرأ عليه الكتاب هو وأبو عثمان المازني، فقبل.
ثم تتابع أخذ الكتاب، فقد قرأه الكسائي والسجستاني على الأخفش، وقرأه الرياشي والدينوري على المازني، وقرأه التوزي على الجرمي، وبدأه المبرد على الجرمي وأتمه على المازني، ثم انتشر بين أهل العلم وطلابه لاحقا عن سابق، وبلدا عن بلد، وزمانا عن زمان.

أهمية الكتاب

تبرز أهمية الكتاب في كونه أقدم كتاب نحوي وصل الينا مكتملا.
قال صاعد بن أحمد الجياني من أهل الأندلس:
لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها، فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب:
أحدها: المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك.
والثاني: كتاب أرسطاطاليس في علم المنطق.
والثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي.
فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له 

- كان لسيبويه بهذا الصنيع فضل كبير في حفظ علم شيخه الخليل بن أحمد الفراهيدي.
 - يسميه بعض القدماء تجوزا "قرآن النحو" وسماه آخرون "البحر" فكان المبرد إذا سأله أحد أن يقرأه عليه يقول له: هل ركبت البحر .

وصار بحق أعظم هدية تقدم إلى الملوك والوزراء والوجهاء 
 وكان المبرد يقول: لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثله .
وكان أبو عثمان المازني يقول: من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مما أقدم عليه .

من أقوال المحدثين فيه كلام الأستاذ علي النجدي في سيبويه وكتابه حيث يقول: "هذا هو السفر العظيم الذي أقامه العالم الجليل في ساحة الخلود أثرا، وأرسله مع الأيام ذكرا، وادخره للعربية كنزا، وندبه في العالمين شاهدا على براعته فيها، ونفاذه إلى أسرارها، وإمامته في الاشتراع لها، وضبط أصولها، على نحو يعز نظيره في الأولين والآخرين: شمول إحاطة، وبراعة أستاذية، وسلامة تحليل، وصدق نظر، وصحة حكم" 

شبهات في نسبة الكتاب

  القول بأخذ سيبويه فكرته ومادته عن غيره.

قال أبو العباس ثعلب: اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه، والأصول والمسائل للخليل" .
وهو قول لا يعرف عن سوى ثعلب، وهو مردود بنفسه .

القول بأن الأصول والمسائل للخليل وحده، فجوابه كالآتي: 

- لم ينكر سيبويه أنّه أراد بهذا الكتاب حفظ علم الخليل رحمه الله كما سبق ذكره، فمن المؤكد أنّه تضمن الكثير من علم الخليل، وما فقد منه ربما يكون أكثر مما دُوِّن. 

- بين وفاة سيبويه ووفاة الخليل عشرون عاما تقريبا، فلا شك أن سيبويه قد أخذ الكثير في هذه المدة الزمنية الطويلة عن غير الخليل. 


- إن من يقرأ الكتاب يجد فيه شخصية المؤلف واضحة جدا؛ جامعا وناقلا عن دراية، ومحققا، ومناقشا، ومحللا، مما ينفي كون الرجل معتمدا على الخليل جملة وتفصيلا في تأليف كتابه. 
ويتصل بما تقدم تقوُّل آخر على الكتاب، وهو أن أصله مأخوذ من كتاب آخر يسمى "الجامع" لعيسى بن عمر وهو مردود أيضا بما سبق.

* أصل هذه المقالة حلقة نقاشية جامعية.






نَشأةُ النَّحوِ وأطوارُهُ:

 

النَّشأةُ:
كانَ لظهورِ اللَحنِ في مراحلَ متقَدِّمَةٍ مِن تَاريخِ العَربيَّةِ في العصرِ الإسلاميِّ، وانتشارِهِ معَ دخولِ الأمَمِ الأخرى في الإسلامِ، أثرٌ كبيرٌ في نشوءِ النَّحوِ، وإدراكِ الحاجةِ إلى الاهتمامِ باللغةِ عامَّةً والنَّحوِ خاصَّةً، والشواهدُ لظُهورِ النَّحوِ كثيرةٌ من زمنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مرورًا بزمنِ الخُلفاءِ الراشدينَ وليسَ انتهاءً بالعصرِ الأُموِيِّ، قالَ أبُو الطَّيبِ: "واعلَمْ أنّ أوَّلَ ما اختلَّ من كلامِ العربِ فأحوجَ إلى التَّعلُّمِ الإعرابُ؛ لأنَّ اللّحنَ ظهرَ في كلامِ الموالي والمُتَعَرِبينَ من عهدِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ؛ فقد رَوينَا أنَّ رجُلًا لَحَنَ بحضرَتِهِ فقالَ: "أرشِدُوا أخاكم فقد ضلَّ". وقالَ أبُو بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ: لأنْ أقرأُ فأُسقِطَ أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أقرأَ فألحَن" (أبو الطيب اللغوي، 1430هـ، 5). وكتُبُ اللغةِ زاخرةٌ بنماذجَ كثيرةٍ لمظاهرِ اللحنِ أغفلتُها اختصارًا، فقد بدأَ النَّحوُ أوَّلَ مرَّةٍ على يدِ أبِي الأسودِ الدُؤلِيِّ على أرجحِ الأقوالِ (أبو الطيب اللغوي، 1430هـ، 5؛ الطنطاوي، 2005م، 22)، وأطلقَ عليهِ اسمَ (النَّحو) تيَمُنًا بقولِ عليِّ بنِ أبِي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ حينَ رأى صنيعَ الدُؤَلِيِّ: "مَا أحسنَ هذا النَّحوَ الذي نَحوْتَ!"(الأنباري، 1985م، 19). وعلى الرَّغمِ مِن وجودِ أسبابٍ أخرَى دينيَّةٍ وقومِيَّةٍ واجتماعيَّةٍ (الحلواني، 1979م، 17-31)، أدَّتْ إلى العنايةِ بالنَّحوِ وتقعيدِهِ إلَّا أنَّ اللحنَ يكادُ يكونُ السببُ الأولُ والأهمُّ لذلكَ. 
أطوارُ النَّحوِ:
بعدَ أنْ وُضِعَتْ اللَبِنَاتِ الأُولَى للنَّحوِ علَى يدِ أبِي الأسوَدِ الدُؤَلِيِّ، بدأتْ مرحَلَةُ التأسيسِ لِلنَّحوِ على يدِ النَّحويينَ الذينَ عاصَرُوهُ والذينَ جاؤُوا بَعدَهُ، وظلَّ النَّحوُ يسيرُ على وتيرةٍ مُتصاعِدَةٍ مِنَ الدِّراسةِ والتأليفِ في البصرةِ وحدَها ما يُقاربُ مائةَ عامٍ، وكانَ الكوفِيُّون حينَها عاكفينَ على حفظِ الأشعارِ والأخبارِ وروايتِها وتناقلِ النَّوادرِ. ثمَّ نَشَأَ بينَ الفريقينِ تنافُسٌ وتصارعٌ على الغَلَبَةِ والسَّبقِ أعقَبَ التَّعاونَ الذي رامَ استكمالَ قواعدِ النَّحوِ، فكانَ نتيجةَ هذا التَّنافُسِ أن ظهرَ المذهبُ الكوفِيُّ منافِسًا قَوِيًّا للمذهبِ البصرِيِّ، ونشَأ تَبَعًا لذلكَ الاختلافُ بينَ أعلامِ المذهبينِ، فأصبحتْ البصرةُ والكوفةُ موطنينِ لمذهبينِ عظيمينِ في النَّحوِ العربِيِّ، وكانَ كُلُّ مذهبٍ بعدَهما تبعًا لهُمَا من جهةٍ ما. ثُمَّ انتقلَ بعضُ علماءِ المذهبينِ إلى بغدادَ وهناكَ التقى رجالُ المذهبينِ، وخلطَ بعضُهم شيئًا ممَّا عندَ الآخرِ، فنَشَأَ عن ذلك مذهبٌ جديدٌ عُرِفَ بالمذهبِ البغداديِّ، وظلَّ هذا المذهبُ قائمًا إلى أنْ احتلَّ المغولُ بغدادَ وتمزَّقتِ الدَّولةُ الإسلامِيَّةُ شرَّ مُمَزقٍ، وحينَها بدأ العلماءُ يرتحلونَ منها إلى الأمصارِ الأخرى الآمِنَةِ مثلِ: مصرَ والشامِ وبلادِ المغربِ والأندَلُسِ قبلَ سقوطِها، فظهرتْ مذاهبُ ومدارسُ نحوِيَّةٌ جديدةٌ في تلك الأمصارِ، ولكنَّ هذه المذاهبَ اعتمدتْ في نشأتِها على الاختيارِ والتَّرجيحِ بينَ آراءِ المذهبينِ الأوَّلِيَّينِ، فلم يكنْ لهُم دورٌ في تطويرِ النَّحوِ أكثرَ ممَّا كان لِمَن سبقَهُم، بل عُرِفَ عنهم مُحَاوَلةُ تيسيرِهِ وتبسيطِهِ للدَّارسين (الطنطاوي، 2005م، 30-31؛ وفاخر، 2017م، 19-20). وقد كان لنشوءِ النَّحوِ ونضوجِهِ أربَعةُ أطوارٍ توزَّعتْ بينَ المذهبَينِ الكبيرينِ، وهِيَ:
1 – طورُ الوضعِ والتَّكوينِ، وقد كانَ هذا الطَّورُ بَصْريًّا بامتيازٍ، ويمتدُّ مِنْ زمنِ أبِي الأسوَدِ الدُؤَلِيِّ إلى أولِ زمنِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ وانتهى كلُّه في العصرِ الأُمويِّ، وشَملَ طبقتينِ بعدَ الدُّؤليِّ من طبقاتِ البصريِّينَ بحسبِ بعضِ التقسيماتِ (الطنطاوي، 2005م، 32)، وخمسَ طبقاتٍ بحسبِ تقسيمِ الزَّبيديِّ في كتابهِ طبقاتِ النَّحويينَ واللغويِّينَ الذي اعتمدتُه في هذا البحثِ، وهذه الطبقاتُ الخمسُ كانت على مرحلتينِ: مرحلةِ أوائلِ النُّحاةِ الذين هم في أغلبِهِم تلاميذُ الدُّؤَليِّ، وكانت مرحلتُهُم تتصفُ بوضعِ القواعدِ وتأصيلِها وتبويبِها ولم تشهدْ ظهورًا للقياسِ ولا للتصنيفِ المتكاملِ سوى نُتَفٍ هنا وهناكَ. وكان ظهورُ القياسِ والتَّصنيفِ في المرحلةِ التَّاليةِ، وهي مرحلةُ كبارِ النَّحويِّينَ الذينَ عُرِفَ بِهمُ المذهبُ البصريُّ وعلى أيديهم تأسسَ النَّحوُ، وهُم كُثُرٌ قياسًا بالمرحلةِ السَّابِقةِ، وفي هذه المرحلةِ وُضِعَتْ قواعدُ جديدةٌ واستُخرِجَتْ ضوابِطُ كثيرةٌ من حركةِ النِّقاشِ العميقةِ، ومِنْ تَتَبُعِ النُّصُوصِ القديمةِ، ثُمَّ تَبِعَ ذلكَ اختمارُ فكرةِ التَّعليلِ وتفريعُ القياسِ على يدِ عبدِ اللهِ بنِ أبي إسحاقَ وعيسى بنِ عمرَ وهُمَا أعجميَّانِ، واستَمَرَّتْ حركةُ الدِّراساتِ والبحثِ النَّحويِّ حتَّى ملأتِ الكتبَ واستنفدتِ المدادَ(الطنطاوي، 2005م، 27-29).
2 – طورُ النُّشوءِ والنُّمُوِّ، وهو طورٌ مشتركٌ بينَ البصريِّينَ والكوفيِّينَ، وقد بدأَ هذا الطَّورُ مِنْ عصرِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ وسيبويهِ حتَّى مطلَعِ القرنِ الثَّالثِ الهجرِيِّ عندَ رحيلِ الأخفشِ والفرَّاءِ، وشَهِدَ ثلاثَ طبقاتٍ من البصريِّينَ وثلاثًا منَ الكوفيِّينَ، واتَّسمَ هذا الطَّورُ بنشوءِ النَّحوِ واستقامتِهِ على سُوقٍ قويَّةٍ، حيثُ اجتهدَ علماءُ المدرستينِ في التَّقصِي والاستقراءِ في كلامِ العربِ، وأعمَلُوا فيهِ فكرَهم لتَتَبُعِ الشَّواهِدِ واستخراجِ القواعدِ والاستدلالِ لهَا بشواهِدِهم على ما استنتجوا منها من قواعِدَ، واتَّسمَ أيضًا ببروزِ نحويينَ كبارٍ أخذوا على عاتِقِهم التَّفَرُغَ لهُ والاهتمامَ بهِ حتَّى بلَغَ ذُروَتَهُ، ومِنْ أبرزِ هؤلاءِ: الخليلُ وسيبويهِ والأخفشُ؛ والكسائيُّ والفرَّاءُ، وكان أكثَرُهُم مِنَ العَجمِ كمَا سيظهرُ، واتَّسمَ هذا الطَّورُ أيضًا بالاهتمامِ بالدِّراساتِ النَّحويَّةِ في الغالبِ ممزوجةً بالدِّراساتِ الصرفيَّةِ أحيانًا، واتَّسَمَ أيضًا بظُهورِ المؤلفاتِ النَّحويَّةِ واللُغويَّةِ المُعجمِيَّةِ ذاتِ القيمةِ الكبيرةِ في تاريخِ العربيَّةِ، وكانتْ أبرزُ سماتِ هذا الطَّورِ هو تَلمَذَةُ نُحاةِ الكوفةِ على يدِ نُحاةِ البصرةِ ونَشْأتُهُم تحتَ رعايَتِهم ثُمَّ استقلالُهُم (فاخر، 2017م، 25-28).
3 – طورُ النُّضُوجِ والكمالِ: وهو طورٌ مُشتَرَكٌ بينَ البصرِيِّينَ والكوفِيِّينَ أيضًا، وقد بدأ هذا الطَّورُ مِنْ عهدِ أبي عُثمانَ المازنِيِّ البصرِيِّ، ويعقوبَ بنِ السِّكِّيتِ الكوفِيِّ، إلى آخرِ عصرِ المُبَرِّدِ البصرِيِّ، وثعلبٍ الكوفِيِّ، وقد استغرقَ طبقةً مِنْ كُلِّ مدرسةٍ، وقرنًا مِنَ الزَّمنِ هو القرنُ الثالِثُ الهجريُّ (الطنطاوي، 2005م، 39). ومِنْ أبرزِ سماتِ هذا الطَّورِ: أنَّه كانَ غايَةَ الكمالِ للنَّحوِ ونهايَتَهُ في التَّنَافُسِ، وكان علماؤُهُ خاتمةَ أئمَّةِ الاجتهادِ والبحثِ والتَّنقيبِ في النَّحوِ، حيثُ أكمَلُوا ما فاتَ السَّابقينَ وشَرَحُوا ما أجمَلُوا وأكمَلُوا وضعَ الاصطِلاحاتِ وهَذَّبُوا التعريفاتِ، وأوَّلُوا وخرَّجُوا وزادُوا في الأمثِلَةِ والشَّواهدِ، وظلَّت مُصنَّفَاتُهم شاهدةً على جهدِهِم إلى اليومِ. وفي هذا الطَّورِ أيضًا استقلَّ علمُ الصَّرفِ عنِ النَّحوِ وحظِيَ بتأليفٍ مُستَقِلٍّ وبرزَ فيهِ علماءُ أفذاذٌ. ومن سِمَاتِ هذا الطَّورِ أيضًا ظُهورُ موسوعاتٍ كبيرةٍ في اللُغةِ والأدبِ وَصَلَ بعضٌ منها وفُقِدَ الآخرُ. وفي هذا الطَّورِ بلغَ الخِلافُ بينَ المدرستَينِ أوجَّهُ وزادتْهُ المُنَاظراتُ سعيرًا واشتعالًا يُغَذِّيها الخلفاءُ والأمَراءُ حينًا، والعداوةُ والبغضاءُ والعصبيَّةُ حينًا آخرَ، وانتَهتْ هذه المُناظراتُ بهجرةِ الكثيرِ مِنْ رُؤساءِ المِصْرَيْنِ وعُلَمَائِهِمَا إلى بغدادَ واستقرارِهِم فيها بعدَ الاضطراباتِ التِي حلَّتْ بالبصرةِ، فكانَ هذا بابًا لطورٍ جديدٍ يُؤذِنُ بامتزاجٍ وتَزَاوُجٍ بينَ المدرسَتَينِ (فاخر، 2017م، 30-32).
4 – طورُ التَّرجيحِ والبَسطِ في التَّصنيفِ: وهذا الطَّورُ هو ثمرَةُ كُلِّ الأطوارِ السَّابِقةِ وفيهِ تَلفِيقٌ لمَذهَبَيّ المدرستينِ الكبيرتَينِ في النَّحوِ، ولكِنَّهُ تجاوَزَهُمَا في المكانِ والزَّمانِ، فقد كانَ مركزُهُ الأساسُ هو بغدادَ، ثُمَّ توَسَّعَ وانطلقَ إلى آفاقٍ جديدةٍ في الأندَلُسِ ومصرَ والشَّامِ، وقد عاشَ في بغدادَ ثلاثَةَ قُرونٍ ونصفَ القرنِ حتَّى سُقُوطِهَا على يَدِ التَّتَارِ، وعاشَ في الأندَلُسِ قرنينِ هما السَّادسُ والسَّابعُ الهجريَّانِ إلى أنْ سقطتْ في يدِ الصليبيِّينَ، وأمَّا في مِصرَ والشَّامِ فقد عاشَ ثلاثةَ قُروُنٍ أعقَبَتِ انهيارَ العلمِ في بغدادَ وهيَ السَّابعُ والثَّامنُ والتَّاسعُ (فاخر، 2017م، 33)، ولهذا الطَّورِ رجالُهُ وعلماؤُهُ مِنَ العَرَبِ وغيرِ العربِ، وأهمُّ سِمَاتِ هذا الطَّورِ هو المُفَاضَلَةُ بينَ آراءِ المدرستينِ الكبيرتَينِ واختيارُ ما أُثِرَ منهما، (ولقد أمعَنُوا في هذا الاختيارِ، فَاصطَفَوْا مسائلَ ذاتَ بالٍ مزيجًا منَ المذهبينِ، على أنَّهُم قد أسْلَمَهُم هذا الاستقراءُ البالِغُ خلالَ تلك الأيَّامِ إلى العُثُورِ على قواعدَ أخرى مِنْ تِلقَاءِ أنفُسِهِم لا تَمُتُّ بصِلَةٍ إلى المذهبينِ تَوَلَّدَتْ لهم مِنِ اجتهادِهِم قِيَاسًا وسَمَاعًا) (الطنطاوي، 2005م، 151)، وشَهِدَ هذا الطَّورُ الكثيرَ مِنَ المُصنَّفَاتِ الكبيرةِ والشُّرُوحاتِ المُطَوَّلَةِ لكُتُبِ السَّابِقينَ.




اللغة والهوية: تحديات البقاء

إن اللغة والهوية عنصران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا قوة لأي هوية بدون لغة تمثلها لذلك فإن الحفاظ على أي هوية، وطنية كانت أو قومية يتطلب  استمرار  لغتها الأصيلة. واللغات على اختلافها تواجهها تحديات كثيرة تقف بوجه بقائها واستمرارها وأبرز هذه التحديات: الغزو العسكري والذوبان الثقافي، التأثير الجغرافي، التطور اللغوي. وهذا ما سيتضح من حديثي عن اللغة والهوية .. 
تحديات البقاء.

هل تموت اللغات؟
لنقرأ هذه البطاقة:
اليوم: يوم الأربعاء.
التاريخ: ١٦ / ٢ / ٢٠٢٢.
المكان: أميركا الجنوبية.
الحدث: موت لغة يامانا.

كريستينا كالديرون



بوفاة هذه السيدة تكون قد اختفت إحدى اللغات الأصلية من قارة أمريكا الجنوبية..
كريستينا كالديرون التي أعلنت عائلتها وفاتها يوم الأربعاء عن عمر يناهز 93 عاماً كانت آخر من يتقن لغة “يامانا” في مجتمع “ياجان” بتشيلي، وعملت على حفظ معرفتها من خلال إنشاء قاموس للغة مع ترجمات إلى الإسبانية، ما دفع الحكومة التشيلية عام 2009 إلى اعتبارها “كنزاً بشرياً حياً” بسبب عملها في الحفاظ على ثقافة معرضة لخطر الانقراض، حيث توقف تعلم هذه اللغة بسبب اعتبارها “معزولة” نظراً لصعوبة تحديد أصل كلماتها...
يعرّف اللغويون عادة "اللغة المنقرضة" بأنها تلك التي يتكلمها أقل من ألف إنسان، وعلى هذا الأساس تعد مثل هذه اللغات ميتة وإن تضمنتها الكتب والوثائق.  
لغات قديمة منقرضة
إن معظم اللغات القديمة كاللغات السامية التي تعدّ بالعشرات، مثل الأكّادية بفرعيها الأشوري والبابلي والأوغريتية ، وجيعز، لغة الحبشة الكلاسيكية، والفينيقية والأمورية تعد لغات ميتة اليوم.
واللغة اللاتينية واحدة من اللغات التي ماتت لأنها غير محكية حاليا ويميل بعض الباحثين إلى أنها في الواقع لم تندثر بل تبدّلت بمرور الزمن وتغير اسمُها إلى لغات عدّة مثل الفرنسية والإسبانية والإيطالية والسردينية، فكلها متحدرة من اللاتينية الأمّ. ويحلو لبعض الناس تشبيه العربية الفصحى ولهجاتها الحديثة باللاتينية وبناتها.
لغات حديثة منقرضة
وفي العصر الحديث انقرضت لغات كثيرة، ففي البرازيل وحدها انقرضت قرابة 170 لغة بعد الاحتلال البرتغالي لها في القرن السادس عشر والذي استمر حتى العام 1822, أما في المكسيك فقد بلغ عدد "الوفيات" 113 لغة وبقيت 12 لغةً.
لغات في طور الانقراض
ومن اللغات التي تعد في طور الاحتضار لغة جايلي Gaeli في جزيرة Cape Breton الواقعة إلى الشمال الشرقي من Nova Scotia التي كانت إحدى الولايات الأربع في دومنيون كندا. ويقدّر عدد الناطقين بهذه اللغة اليوم كلغة أم بحوالي خمسمائة من المسنّين في حين أن عددهم في مستهل القرن العشرين تراوح ما بين خمسين ألفا وخمسة وسبعين ألفا..

لغة الماجاتي كي لشعب المارينجار
يتكلم بها هولاء الثلاثة فقط


من عوامل اندثار اللغات: (التحدي الجغرافي)

عادة ما يكون سبب الموت ناتجا عن عوامل داخلية أو خارجية، احتلال لغة ما تدريجيا مكان لغة أخرى لأسباب اجتماعية أو سياسية. مثال على ذلك لغة كشوا في أمريكا الجنوبية التي يتحدثها نحو ثمانية ملايين نسمة وبالرغم من ذلك فهي مرشحة للانقراض بعد بضعة عقود لأن الأطفال يتكلمون الإسبانية عوضا عنها.
عندما نتحدث عن موت لغة ما فذلك لا يعني أنها هرمت وذبلت وهوت أرضا جرّاء عمرها المديد، إذ أن الموت يحلّ بلغة حديثة العهد أيضا. إن اندثار اللغات في كل الحالات يحدث عندما تحتلّ لغة ما ذات هيبة ونفوذ سياسيا واجتماعيا واقتصاديا مكان لغة ثانية.
ذلك الموت قد يكون، إما انتحارا وإما قتلا، ويكون الأول عند تشابه اللغتين والثاني حين اختلافهما.
من عوامل اندثار اللغات: (التحدي العسكري)
حروب إبادة وكوارث طبيعية مثلما جرى لشعوب الكاريبي خلال عقد من السنين بعد كولومبس. إلا أن مثل هذه الحالات نادرة. وكذلك اندحار العرب في الأندلس بعد قرابة ثمانية قرون فانقرضت اللغة العربية هناك.
وفي جنوب السودان مثلا ظهرت عربية جوبا وفي جزيرة مالطا تحوّلت عربيتها إلى لغة أوروبية. وفي عصرنا الحاضر حلّت الإنجليزية محل الإيرلندية في شمال إيرلندا وتهدد الآن الولشية والجالية في أسكتلندا. 
الصراع بداية الانقراض: (تحدي التطور اللغوي)
الصراع اللغوي لوحده يمكن أن يقضي على لغة من اللغات أو لهجة من اللهجات، ولا يمكن تحديد زمن هذا الصراع تحديدا دقيقا ، إلا إذا نظرنا إلى الظروف التي تحيط باللغة المقهورة وإلى مقدار ما فيها من حيوية وقوة مقاومة ، ومن أهم أشكاله :
صراع بين لُغتين مختلفتين: كما حصل بين العربية وكثير من اللغات السامية الأخرى.
صراع بين الشكل الفصيح المثالي من اللغة وبين الأشكال العامية: مثل ما يحصل بين العربية الفصحى والعاميات.
صراع بين لُغة ولهجاتها: كما يحصل بين اللاتينية ولهجاتها: الفرنسية والايطالية والبرتغالية والاسبانية، وبين الأمازيغية ولهجاتها: الشاوية والميزابية والقبائلية والتارقية.
مراحل الصراع اللغوي
المرحلة الأولى: تطغى مفردات اللغة المنتصرة وتحل محل اللغة المقهورة شيئا فشيئا أو تقل تبعا للمقاومة التي تبديها اللغة المهزومة، فاللغات البربرية لم تترك في اللغة العربية المنتصرة إلا مفردات قليلة.
المرحلة الثانية: تغيير في مخارج الأصوات؛ فيقترب النطق بها،من النطق بأصوات اللغة الجديدة شيئا فشيئا حتى تصبح على صورة تطابق أو تقارب الصورة التي هي عليها في اللغة المنتصرة، وذلك بأن يتصرف المغلوب تصرف الغالب في النطق بالأصوات فتتسرب بذلك أصوات اللغة الغالبة إلى المغلوبة في نطقها ونبرها ومخارجها مثل دخول بعض الأصوات والمقاطع من اللغة التركية إلى العربية.
المرحلة الثالثة: تفرض اللغة المنتصرة قواعدها وقوانينها اللغوية الخاصة بالجمل والتراكيب وبهذا تزول معالم اللغة المقهورة وحينئذ تبدأ اللغة المنتصرة في إحلال أخيلتها واستعاراتها ومعانيها المجازية محل نظيراتها في اللغة القديمة.
العوامل التي تمنع موت اللغة
حدد عالم الأنثروبولوجيا أكيرا ياماموتو عوامل عديدة يعتقد أنها ستساعد في منع موت اللغة:
يجب أن تكون هناك ثقافة سائدة تفضل التنوع اللغوي.
يجب أن يمتلك المجتمع المعرض للخطر هوية عرقية قوية بما يكفي لتشجيع الحفاظ على اللغة.
إنشاء وتعزيز البرامج التي تعمل على توعية الطلاب باللغة والثقافة المهددة بالاندثار
إنشاء برامج مدرسية ثنائية اللغة وثنائية الثقافة
تدريب المتحدثين باللغة الأم ليكونوا معلمين.
وضع مواد لغوية تكون سهلة الاستخدام.
تطوير الأدب المكتوب التقليدي والحديث .
إيجاد و تقوية البيئات التي ينبغي أن تستخدم فيها اللغة.

* أصل هذه المقالة حلقة نقاشية جامعية.

إعانة الكفار على المسلمين

الملخص: من نواقض الإسلام التي يحكم بردة صاحبها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَ...