الاثنين، 31 أغسطس 2020

أبو فراس الحمداني: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب.

تنسب هذه الأبيات عادة لرابعة العدوية رحمها الله، وهي ليست كذلك، فقائلها هو أبو فراس الحمداني، وهي في ديوانه المطبوع، ولم ينظمها تزهدا ولا تنسكا، وإنما كان يخاطب بها ابن عمه سيف الدولة الحمداني، في قصيدة حب وعتاب، ولمن لا يعرف أبا فراس نقول هو شاعر وفارس وشريف قوم ذاع صيتهم ثم ضوى، فقد ولد أبو فراس في الموصل عام 321هـ لسعيد بن حمدان حاكمها آنذاك فسماه الحارث وكناه أبا فراس وهي من كنى الأسد، تيتم وهو ابن ثلاث سنوات، وعاش في حضن أمه التي يقال إنها رومية الأصل، وفي كنف ابن عمه وزوج أخته سيف الدولة الحمداني الذي كان حاكما لحلب، فرعاه وأحسن إليه وتعهده، فنشأ أبو فراس بين الموصل وحلب وخالط منذ صغره الأدباء والعلماء والبلغاء في مجالس ابن عمه وتتلمذ على يد ابن خالويه، فاشتد عوده، وقويت شكيمته، وفصح لسانه، وتفتقت قريحته، فكان فارس السيف والقلم، وكان أول بيت قاله قد نال به إعجاب سيف الدولة واستحسانه، فوهبه لأجله ضيعة في (منبج) على أطراف حلب وكانت تدر عليه ألفي دينار في العام، فلما نضج واستوى شابا قويا وفارسا أصيلا، ولاه سيف الدولة (منبج وحران) وهما ثغران من ثغور حلب فيما يدانيها من بلاد الروم فتولاههما، وأحسن حكمهما، وخاض مع الروم دفاعا عنهما حروبا كثيرا ومعارك طاحنة، فقتل منهم الكثير، وأسر وسبى الكثير، فكان بذلك أشد أعداء الروم وأنكاهم، فحظي بقرب سيف الدولة ومرافقته ومندامته في حربه وسلمه، في سعده وحزنه وكانت هذه الأبيات التي استفتحت بها موجهة إليه، معبرة عن حب الأمير لابن عمه، وتعلق الجندي بقائده، وإخلاص المولى لولي نعمته، ولكن هذا الوصال لم يدم طويلا، فقد كمن الروم في ألف رجل للأمير حين عاد من إحدى رحلات صيده وبرفقته سبعون رجلا أغلبهم من غير المقاتلين، على حدود منبج فقاتلهم وأثخن فيهم الجراح قبل أن يباغت برمية سهم أصابت ساقه فأسقطته، فتمكن العدو منه واقتادوه أسيرا إلى بلاد الروم (تركيا اليوم)، وعاش في الأسر أربع سنوات أليمات على قلب الشاعر المرهف، وكرامة الفارس المغوار المُهاب، ولكن ملك الروم عرف قدره فأكرمه وأحسن إليه حتى أسكنه قصر البلاط الإمبراطوري، وهو قصر رومي على البحر، وخصص له خادما يقوم بشأنه، وقد عرف عنه كثرة مناظرته لدهاقنة الروم، وفخره عليهم بما اقتطع منهم من قرى ومدن وثغور فما عرف أسير أكرم منه ولا أعز منه، ولا أهيب منه، ولا اشد جرأة منه، وكان يراسل إخوانه وأحبابه في حلب والموصل، ويعجل بطلب الفداء، ولكن سيف الدولة يريد فداء كل المسلمين عند الروم، وكم عرض عليه ملك الروم أن يفديه وحده فرفض هو أيضا، حتى جاء يوم الحرية في الأول من رجب عام 355 هـ حين افتداهم سيف الدولة هو وثلاثة ألاف أسير مسلم بستمائة ألف دينار رومي وبما معه من أسرى الروم. فعاد إلى الديار فوجدها غير الديار التي عهدها واستأنس بها، فقد دالت الأيام وساءت الأحوال، ويوليه سيف الدولة حمص قبل أن يتوفاه الله ويؤول الأمر بعده إلى ابنه (أبي المعالي_ وهو ابن أخت أبي الفراس) بوصاية حاجب سيف الدولة التركي (قرغويه) الذي خشي من استيلاء أبي فراس الحمداني على الحكم فحرض عليه أبا المعالي فوجه إليه جيشا بقيادة قرغويه ودارت بينهما معركة انتهت بمقتل أبي فراس الحمداني سنة 357 هـ.
تضمن شعره أغراضا متنوعة من الغزل، والفخر، والرثاء، والوصف، والحكم والعواطف المختلفة، وكانت له قصائد عرفت بالروميات نظمها في أسره في بلاد الروم، تجسدت فيها معاناته وحنينه إلى بلده ومربع صباه وإلى أمه العجوز، وحزنه على فقده حريته، وفخره بماضيه ومآتيه في سبيل سيف الدولة.
من قصائده المشهورة:
“أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ، أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ ؟
بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ ، ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ
تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِي إذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ
معللتي بالوصلِ ، والموتُ دونهُ ، إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ!
حفظتُ وضيعتِ المودة َ بيننا و أحسنَ ، منْ بعضِ الوفاءِ لكِ ، العذرُ
و ما هذهِ الأيامُ إلا صحائفٌ لأحرفها ، من كفِّ كاتبها بشرُ...
ومن أجمل ما قال:
رأيتك لا تختار إلا تباعدي..
فباعدت نفسي لإتباع هواكا
..فبعدك يؤذيني و قربي لكم أذى
فكيف احتيالي يا جعلت فداكا؟
وقوله:
أقرُّ لــهُ بالذنبِ ؛ والذنبُ ذنـــــــــبهُ وَيَزْعُمُ أنّي ظــــــالم فَــــــــــــأتُوبُ 

وَيَقْصِدُني بالهَــــجْرِ عِلْـــــــــماً بِأنّهُ إليَّ ، على ما كانَ منــهُ ، حبيبُ 

و منْ كلِّ دمعٍ في جفوني سحابة ٌ و منْ كلِّ وجدٍ في حشايَ لهيبُ
وقوله:
أزعمت أنك صابر لصدوده
هيهات صبر العاشقين قليل
ما للمحب علي الصدود جلادة
ما للمشوق إلى العزاء سبيل
فدع التعزز، إن عزمت على الهوى
إن العزيز، إذا أحب، ذليلُ
وقوله:
وَقَدْ صَارَ هَذَا النّاسُ إلاّ أقَلَّهُمْ ذئاباً على أجسادهنَّ ثيابُ
تغابيتُ عنْ قومي فظنوا غباوة بِمَفْرِقِ أغْبَانَا حَصى ً وَتُرَابُ
وَلَوْ عَرَفُوني حَقّ مَعْرِفَتي بهِم، إذاً عَلِمُوا أني شَهِدْتُ وَغَابُوا
وَمَا كُلّ فَعّالٍ يُجَازَى بِفِعْلِهِ ولا كلِّ قوالٍ لديَّ يجابُ
إلى الله أشْكُو أنّنَا بِمَنَازِلٍ تحكمُ في آسادهنَّ كلابُ
رحم الله أبا فراس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعانة الكفار على المسلمين

الملخص: من نواقض الإسلام التي يحكم بردة صاحبها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَ...