الاثنين، 17 يوليو 2017

نظريات نشأة اللغة

     لا شك أن الفضل في تطور اللغة الإنسانية يرجع إلى المجتمع نفسه, وإلى الحياة الاجتماعية. فلولا اجتماع الأفراد بعضهم مع بعض, وحاجتهم إلى التعاون والتفاهم وتبادل الأفكار, والتعبير عما يجول بالخواطر من معانٍ ومدركات, ما وجدت لغة ولا تعبير إرادي.
    ولا شك كذلك أن اللغة ظاهرة اجتماعية تنشأ كما ينشأ غيرها من الظواهر الاجتماعية، فتخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجمعية, وما تقتضيه هذه الحياة من شؤون.
    لذلك ظهرت عدة نظريات تحاول الكشف عن النشأة الأولى للغات، وأبرز هذه النظريات:

1- نظرية الإلهام الإلهي:

تقرر هذه النظرية أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى الهام إلهيٍّ هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء، وقد ذهب إلى هذ الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت Heraclite، وفي العصور الوسطى بعض الباحثين في فقه اللغة العربية كابن فارس في كتابه الصاحبي، وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها الأب لامي Lami  في كتابه "فن الكلام" LArt de parler,  والفيلسوف دوبونالد De Bonald  في كتابه التشريع القديم Legislation primitive..
وأصحاب هذه النظرية يقدمون بين يدي مذهبهم أدلة نقلية بعضها يحتمل التأويل, وبعضها يكاد يكون دليلًا عليهم لا لهم.
دليلهم:
المؤيدون لهذا الرأي من باحثي العرب يعتمدون على قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وهذا النص يحتمل أن يكون معناه -كما ذكر ذلك ابن جني في كتابه الخصائص, وذهب إليه كثير من أئمة المفسرين: أن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ.
أما القائلون بهذه النظرية من الغربيين، فيعتمدون على ما ورد بهذا الصدد في سفر التكوين؛ إذ يقول: "والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها, وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان, فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول": وهذا النص، كما ترى، لا يدل على شيء مما يقول به أصحاب هذه النظرية، بل يكاد يكون دليلًا عليهم.

2- نظرية التواضع والاصطلاح:

تقرر أن اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالًا, وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني ديموكريت Democrite - من فلاسفة القرن الخامس ق م- وفي العصور الوسطى كثير من الباحثين في فقه اللغة العربية مثل ابن جني، وفي العصور الحديثة الفلاسفة الإنجليز آدم سميث Adem Smith,  وريدReid,  ودجلد ستيوارت Dugald Stewart..
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي, بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية, فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون, فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل.

3- نظرية المحاكاة:

تقرر هذه النظرية أن الإنسان سمّى الأشياء بأسماء مقتبسة من أصواتها بمعنى أن تكون أصوات الكلمة نتيجة تقليد مباشر لأصوات طبيعية صادرة عن الإنسان أو الحيوان أو الأشياء.
وقد عرض ابن جني لهذا الرأي بقوله: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعة؛ كدوي الريح, وحنين الرعد, وخرير الماء, وشحيج البغل, ونهيق الحمار, ونعيق الغراب, وصهيل الفرس, ونزيب الظبي، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد...".
حسب هذه النظرية يكون الإنسان قد افتتح هذه السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات؛ كأصوات الفرح والحزن والرعب وما إليها, ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهر الطبيعة والأشياء وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكى ما زود به من قدرة على لفظ أصوات مركبة ذات مقاطع, وكانت لغته في مبدأ أمرها محدودة الألفاظ، قليلة التنوع، قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذت عنها, قاصرة عن الدلالة على المقصود, ولذلك كان لابد لها من ساعد يصحبها؛فيوضح مدلولاتها ويعين على إدراك ما ترمي إليه, وقد وجد الإنسان خير مساعد لها في الإشارات اليدوية والحركات الفطرية التي تصحب الانفعالات، فكان في مبدأ أمره مجرد محاكاة إرادية لهذه الحركات ثم أخذ يتسع نطاقها تبعًا لارتقاء التفكير, واتساع حاجات الإنسان ومظاهر حضارته، وتستغني شيئًا فشيئًا عن مساعدة الإشارات.
وأول من دافع عن هذه النظرية من علماء الغرب هردر في كتابه بحوث في نشأة اللغة، ولكنه تراجع عنها فيما بعد. 
المآخذ على هذه النظرية:
على الرغم من المقبولية التي تحظى بها هذه النظرية إلا أنه يؤخذ عليها أنها تحصر نشأة اللغة في الملاحظة المبنية على الإحساس بما يحدث في البيئة ويتجاهل الحاجة الطبيعية الماسة إلى التخاطب والتفاهم والتعبير عما في النفس.
لا تبين لنا كيف نشأت الكلمات الكثيرة في اللغات المختلفة وليس فيها محاكاة لأصوات المسميات وبوجه خاص في أسماء المعاني، كالعدل والمروءة والشهامة.

4- نظرية التنفيس عن النفس:

تتلخص هذه النظرية في أن مرحلة الألفاظ قد سبقتها مرحلة الأصوات الساذجة التلقائية التي صدرت عن الإنسان للتعبير عن ألمه أو سروره أو رضاه أو نفوره، وقد تطورت هذه الأصوات على مر الزمن حتى صارت ألفاظا.
أهم ما يميز هذه اللغة أنها تعزو نشأة اللغة الإنسانية إلى أمر ذاتي، أي أنها تعتد بالشعور الإنساني الوجداني، وبالحاجة إلى التعبير عما يجيش في صدر الإنسان من أحاسيس وانفعالات.
المآخذ على هذه النظرية:
يؤخذ على هذه النظرية أمران: الأول، النقص. والثاني، الغموض.
أما نقصها، فلأنها لا تبين منشأ الكلمات الكثيرة التي لا يمكن ردها إلى أصوات انفعالية.
وأما غموضها، فلأنها لا تشرح لنا السر في أن تلك الأصوات الساذجة الانفعالية تحولت إلى ألفاظ أو أصوات مقطعية.
ولذلك سخر منها مكس مولر وانصرف عنها العلماء.

5- نظرية الاستعداد الفطري:

جاء بهذه النظرية اللغوي الألماني مكس مولر وسماها DING DONG.
خلاصتها أن الإنسان مزود فطريا بالقدرة على صوغ الألفاظ الكاملة، كما أنه مطبوع على الرغبة في التعبير عن أغراضه بأية وسيلة من الوسائل، غير أن القدرة على النطق لا تظهر إلا عند الحاجة.
وقد استوحى مولر نظريته من ملاحظته الأطفال في حياتهم اليومية، التي تدل على توقهم إلى وضع أسماء للأشياء التي يرونها ولا يعرفون لها أسماء، فيبتكرون لها أسماء إرضاء لرغبتهم في التكلم والتعبير عن أغراضهم. فاستنبط من ملاحظته أن الإنسان مزود بتلك القوة التي تنشأ عنها الألفاظ.
المآخذ على هذه النظرية:
أبرز عيوبها أنها تفترض ظهور الكلمة أو الكلمات الأولى لدى الإنسان كاملة غير خاضعة لسنة التطور.
كيف ومتى زود الإنسان بهذه الذخيرة اللغوية؟
كيف انطوت نفسه على تلك الألفاظ كاملة؟
إذا كان زود بفطرته بهذه الألفاظ فلم اختلفت اللغات وتعددت اللهجات؟
كيف أخرج الإنسان تلك الكلمات من مكانها وأطلقها على الأشياء المختلفة؟

6- نظرية التطور:

ترى هذه النظرية أن اللغة تطورت وفقا لمراحل متعددة:
مرحلة الأصوات الساذجة التي صدرت عن الإنسان في العصور الأولى، حين كانت أعضاء النطق لديه غير ناضجة.
مرحلة الأصوات المكيفة المنبئة عن الأغراض والرغبات المصحوبة بالإشارات المتنوعة وقد ساعد هذا في تطور أعضاء النطق ونمو الإحساس والشعور الذاتي عند الإنسان.
مرحلة المقاطع: وفيها انتقلت لغة الإنسان من أصوات غير محددة المعالم إلى أصوات محددة في صورة مقاطع قصيرة مستنبطة من أصوات الأشياء.
مرحلة الكلمات المكونة من المقاطع: في هذه المرحلة تتكون المقاطع التي سبق الحديث عنها الكلمات أو الأصول العامة التي استعملها الانسان الأول...ثم اشتق منها الكثير من الفروع وبالتأليف بين هذه الفروع وتلك الأصول اكتمل تكوين اللغة الفطرية.
مرحلة الوضع والاصطلاح وهي أخر مرحلة من مراحل النمو اللغوي وهي وإن لم تكن مرحلة فطرية فإنها تقوم على أساس فطري، وهو حاجة الإنسان الملحة إلى الاحتكاك ببيئته.
 في هذه المرحلة وضعت الاصطلاحات العلمية وابتكرت الأسماء الدالة على المسميات المستحدثة، ولا تزال اللغة في تطور مستمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعانة الكفار على المسلمين

الملخص: من نواقض الإسلام التي يحكم بردة صاحبها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَ...