السبت، 26 مارس 2022

إشكالية العجمة في العربية والقرآن

تعد العجمة مشكلة عند أهل اللغة والنحو فهي سبب من الأسباب التي يمتنع صرف الاسم لأجلها عند النحاة، وهم يعرفونها على أنها (كل ما نقل إلى اللسان العربي من لسان غيرها سواء كان من لغة الفرس، أو الروم، أم الحبشة أم الهند، أم البربر، أم الإفرنج، أم غير ذلك)( همع الهوامع 1 /108 ) قال الشاطبيّ: "فالعجمي عندهم ما ليس من كلام العرب، من أي لغة كان سوى لغة العرب، واللسان العجمي هو ما خالف كلام العرب، لا يختص ذلك بأمة دون أمة، فكل لسان غير لسان العرب عجمي"(المقاصد الشافية 5 /643.) ولها وجوه تعرف بها( ينظر: شرح المفصل 1 /66-67، وهمع الهوامع 1 /108-109.)، وقد خالف ابن قتيبة ذلك فذهب فيها مذهبا لم يرض الشاطبي حين قال: "الأعجمي الذي لا يفصح وإن كان نازلا بالبادية، والعجمي: منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا"( أدب الكاتب_كتاب المعرفة 39.)، فرده الشاطبي بقوله: "وما قاله لا يلزم؛ لأن الأعجمي يستعمل كما قال، ويستعمل أيضا مرادفا للعجم...وقد ردَّ عليه في هذا ابن السِّيد، وردّه صحيح"( المقاصد الشافية 5 /644. ). قال ابن السِّيد البطليوسي: "هذا الذي قاله غير صحيح؛ لأن أبا زيد وغيره قد حكوا أن الأعجم لغة في العجم؛ وجاء ذلك في الأشعار الفصيحة، كقول الأخزر الحماني(في لسان العرب مادة (عجم). ):

سَلُّومُ لَوْ أَصْبَحْتِ وَسْطَ الأَعْجَمِ

فِي الرُّومِ أَوْ فَارِسَ أَوْ فِي الدَّيلَمِ

إِذَنْ لَزُرْنَاكِ وَلَوْ لَمْ نَسْلَمِ" 

( الاقتضاب في شرح أدب الكتاب_القسم الثاني 27.) 

    ومهما يكن من هذا الخلاف في مفهوم العجمة فهي موضع اعتراض آخر وذاك بسبب وقوعها في القرآن الكريم، فقد روي عن أهل العلم أنهم قالوا في أحرف كثيرة إنها بلغات العجم، منها قوله: طه، واليم والطور، والربانيون، فيقال إنها بالسريانية. والصراط، والقسطاس، والفردوس، يقال إنها بالرومية.ومشكاة، وكفلين، يقال إنها بالحبشية. وهيت لك يقال إنها بالحورانية (المزهر 27.). مما يتعارض مع نص القرآن فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾(يوسف ٢. )، ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾(النحل ١٠٣. )، ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾( طه ١١٣)، وآيات أخرى كثيرة وردت ووصف القرآن فيها بأنه قرآن عربي مبين، فكيف يكون عربيا والنحاة يقولون في بعض الأسماء إنها أعجمية؟ لقد كان هذا مسوغا لبعض الأئمة ليشددوا النكير حتى قال أبو عبيدة: "من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول"(المهذب للسيوطي نقلا عن دراسات في فقه اللغة 317.). ولكن ابن سلام ذهب فيها مذهبا وسطا محاولا إزالة الإشكال إذ قال: "والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها أعجمية فصادق"(  المزهر 1 /269.). من هنا سمي هذا النوع من الأسماء الأعجمية بالمعرب أو الدخيل (فهي عجمية باعتبار الأصل، عربية باعتبار الحال)( المعرب للجواليقي 92.)  وقد ألف فيه اللغويون مصنفات خاصة لكنهم (لم يحسنوا دائما التمييز بين المعرب والأعجمي، فكثيرا ما نفوا أعجمية لفظ لأن القرآن نزل به، وليس في القرآن عندهم دخيل، وكثيرا ما زعموا عجمية لفظ من غير أن يقيموا دليلا)( دراسات في فقه اللغة 318.)، أما النحويون فقد جعلوا الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: 

1- قسم غيرته العرب وألحقته بكلامها، فحكم أبنيته في اعتبار الأصلي والزائد والوزن حكم أبنية الأسماء العربية الوضع؛ نحو: درهم وبهرج ( هو كل رديء من الدراهم وغيرها وهو فارسي. لسان العرب مادة (بهرج)).

2- قسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في قبله، نحو: آجر وسِفسير(السفسير: السمسار. لسان العرب مادة (سفسر) ).

3- قسم تركوه غير مُغيَّر؛ فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم لم يُعَدّ منها، وما ألحقوه بها عُدّ منها؛ مثال الأول: خراسان، لا يثبت به فُعالان. والثاني: خُرَّم( الخرم: نبات الشجر، وعيش خرم: ناعم. لسان العرب مادة (خرم))  أُلحِقَ بسُلَّم، وكُركُم(الكركم: نبت قيل هو الزعفران. ينظر: العين 5 /432، والصحاح 5 /2021. وهو فيما يعرفه الناس اليوم نوع من النباتات التي يستعمل مطحونها لتطييب الطعام بنكهة خاصة وهو أصفر اللون ) الحق بقمقم( ينظر: المزهر 1 /269-270، وهمع الهوامع 1 /109-110.).

على أية حال فإن صنيع النحاة ليس مذموما؛ بل هو إثبات لحيوية العربية وديمومتها؛ لأنها ليست بمنأى عن لغات العالم الأخرى التي تؤثر وتتأثر، فالعربية تركت أثرا كبيرا في لغات الأمم المجاورة خاصة تلك التي اعتنقت الإسلام، وكان من الطبيعي أن تتأثر هي الأخرى بدخول ألفاظ ومصطلحات من لغات الأمم الأخرى فيها وهذا (قانون اجتماعي إنساني، وإن اقتراض بعض اللغات من بعض ظاهرة إنسانية أقام عليها فقهاء اللغة المحدثون أدلة لا تحصى)( دراسات في فقه اللغة 315.)  هذا إذا كان التأثر والتبادل عشوائيا فما بالك به إذا كان منتظما بقانون وقواعد أوجدها أهل اللغة والنحو لا شك أنه سيكون أكثر قبولا. كما أن هذا الصنيع يشهد بقدرة عالية لأولئك العلماء في رصد كل جزئية ومفردة مهما كانت صغيرة حين دخولها في لغتهم.

كما أن دخول مفردة ما من لغة ما ليس دليلا على انتفاء الأصالة عن تلك اللغة فذاك أمر طبيعي كما تقدم. فلو استخدم المتكلم العربي اسما أجنبيا في كلامه فقال مثلا: جاء جون من لندن إلى بغداد. لما اختلف اثنان على أن هذا الكلام عربي على الرغم من تضمنه اسمين أعجمين، وما ذاك إلا لأن الضرورة دعت إلى استعمال اسم أعجمي في الخبر. فلو قال أحد بغير ذلك للزم أن نغير كل الأسماء والمسميات التي هي من لغات أخرى وما أكثرها اليوم ولا أحسب عاقلا يقول بذلك. والدليل على ذلك عكس الأمر فلو تكلم الإنكليزي باسم عربي فقال مثلا: Ahmed came from Baghdad to London   لما اختلف اثنان على أن هذا الكلام ليس عربيا على الرغم من تضمنه اسمين عربيين. وكذلك يقال في تضمن القرآن لأسماء أعجمية فالقرآن يروي لنا قصصا لأقوام غابرين أسماؤهم غير عربية ولغتهم غير عربية، فمن الطبيعي أن يذكرها كما هي في لغتهم فهي أعلام لأناس من غير العرب وهذا لا يشكك في كون القرآن عربيا.

أما الأسماء التي وردت في القرآن بلفظ أعجمي وهي ليست من أسماء البشر كاليم والطور وغيرها وفي العربية ما يقابلها، فمثل هذه الألفاظ لها مناسبات سياقية وبلاغية هي من باب الإعجاز القرآني، وقد تحدث فيها أستاذنا الدكتور فاضل السامرائي في معظم كتبه بما لا يترك مجالا للشك أن هذه المفردات جاءت مقصودة لمناسبة بلاغية معجزة تشهد أن هذا القرآن من عند الله وليس من قول البشر. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعانة الكفار على المسلمين

الملخص: من نواقض الإسلام التي يحكم بردة صاحبها مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَ...