الاثنين، 17 يوليو 2017

التحول عن النبع الأول

كل حركة في الزمان والمكان لا تولد من دون نبع يرفدها بمقومات الحياة، ويجعل منها حركة حية نابضة تمارس دورها وترفد معتنقيها بالقيم والمبادئ التي تمكنهم من القيام والانتشار، حتى تستوي على سوقها حية قوية وشامخة في زحام الوجود، وهكذا بدأ الإسلام؛ حركة ناشئة مستقية من نبع صاف متدفق أنزله الله -سبحانه- على نبيه الأكرم وفقا لحاجة الحركة والدعوة، فبدأ النبع يفيض شيئا فشيئا ليبني العقل والفكر بعقيدة راسخة كالرواسي، وكان هذا الرفد طويلا إذا ما قيس بعمر الدعوة كاملة ثلاثة عشر عاما زاخرة بالقيم والمبادئ والعقيدة التي تربى عليها جيل قرآني فريد تمثل كل معاني النبع في حياته وسلوكه حتى قدر الله التحول والتغير، ثلاثة عشر عاما شهدت مكة حركةً عميقة تموج في رحم الحركة فبنت عقولا عظيمة تحملت الكثير من العناء والمشقة والضيق فلم تفتر ولم تتراجع بل مضت قدما في سيل غامر اجتاح مكة بأكملها بعد أن أوجد له موطئ قدم في المدينة ثم توالت الخطى واشتد النبع حتى بنى دولة فتية في يثرب وأمدها بمزيد من القيم والمبادئ وزاد عليها شرائع عظيمة أسست للدولة القوية التي وحدت العرب بعد فرقتهم وجمعتهم بعد شتاتهم، وكان الأمر اللافت حينها أن ذلك الجيل الذي نشأ في حضن تلك الدولة كان جيلا قويا في المبدأ والمنشأ متماسكا في الفكر والجسد، وكان يزداد قوة طيلة المدة التي كان ينهل من نبع الحركة_ القرآن الكريم _ واستمر ذلك الجيل في مدِّه الزاخر قرونا طويلة يجتاح البلدان وينتشلها من ظلمات التيه والضلال إلى نور التوحيد والهداية وهو في مدِّه هذا لا يحيد عن النبع ولا يتنكر لمعينه، ثم أعقب ذلك بعض الجنوح فكانت النكسات والنكبات ولكنها لم تدم طويلا؛ لأن رجال هذه الدعوة كانوا دائما ما يثوبون إلى رشدهم حين يشطون عن ذلك النبع فيعودون إليه، ليستعيدوا مدهم وزخمهم من جديد، وعلى امتداد هذه المسيرة لم يشهد النبع تغيرا ولا تحولا إنما جنوحا وابتعادا ما يلبث أن ينتهي، وقد فطن أعداء هذا الدين إلى قيمة النبع وتأثيره، فبدؤوا يوجهون سهامهم صوبه ليعكروا مياهه ويُنضِبوا معينه، فظهروا علينا في هذا العصر بأفكار وتيارات وحركات ومذاهب من صنع أيديهم، ونسج عقولهم؛ لتكون بديلا عما اختاره الله للبشرية ورضيه، فجاؤوا بالشيوعية ثم الرأسمالية، واوجدوا خلالها نظما مختلفة اقتصادية وسياسية واجتماعية ليضاهوا بها حكم الله، وروجوا لها بكل ما استطاعوا من وسائل، متوهمين أنها ستكون البديل عما جاء به النبع الأول، كما كانت بديلا عما ورثوه من تحريف نصراني ويهودي، ولكنهم لم يفلحوا، فالمسلمون مهما يفتنوا في حياتهم فسرعان ما يعودون إلى صوابهم، ويرجعون إلى ربهم وهذا هو مصدر قوتهم.
لكن أعداء هذا الدين لا يفترون في الكيد له، فلا يزالون يتربصون به في كلِّ زمان ومكان؛ لأنهم يعلمون حق اليقين أن المستقبل لهذا الدين، ولهذه العقيدة التي فاض بها النبع الأول، لذلك نراهم اليوم يحاولون جرَّ المسلمين_ كلَّ المسلمين بعيدا عن هذا النبع ليس بالإرغام ولكن بمحاولة تشويه النبع بعد أن عجزوا عن تعكيره، فتراهم يسلكون إلى ذلك طريقين: فكري وعسكري.
أما الطريق الأول، فله باع طويل متجدد، فقد شهد العصر الحديث خصوصا حملة استشراقية كبيرة بعثت بباحثين ومفكرين وعلماء لكي يدرسوا الإسلام والعربية ويترجموا الكثير من مصادر الإسلام بداعي الفكر والثقافة والتنوير فبدؤوا بسبر غور المصادر بدءًا من القرآن وكتب السنة والتاريخ وليس انتهاءً بكتب الأدب، ولكنها لم تأتِ ثمارها المرجوة لأنها دائما موضع شكٍ وريبة، مما حدا بهم إلى استقدام الطاقات العربية والإسلامية إلى الغرب نفسه ليغذوها بما يشتهون من تشويه وتحريف وتغريب، فتعود إلينا لتنهش في عقول أبنائنا وأفكارهم لتجنح بهم بعيدا عن النبع الأول بداعي التنوير وتارة والإصلاح تارة أخرى. وهؤلاء بدورهم أسسوا ما يسمى بالحركات التنويرية والإصلاحية وألفوا الكتب وعقدوا الندوات ... ولا يزالون ينشطون في كل المجالات وليس لتنويرهم ولا لإصلاحهم إلا ثمرة واحدة هي التخلي عن العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي واللحاق بنتاج الحضارة الغربية، وكأن الإصلاح والتنوير لا يكون إلا باتباع عقولهم الكدرة، والانسلاخ من دين الله إلى عقل البشر القاصر المنحرف عن فطرة الله!! فإذا تبعتهم فأنت المثقف والمتنور وإن تمسكت بدينك _ناهيك عن مخالفتهم_ فأنت المتخلف والرجعي!!
وأما الثاني، فهو أشد وأنكى إذ استمرت حروبهم على البلاد الإسلامية طويلا قديما وحديثا تارة باسم الصليبية وتارة باسم الاستعمار، ومع ذلك لم تفلح في القضاء على النبع الأول ولا في تعكير صفوه ولا في تشويهه، بل دفعت المسلمين دائما إلى الرجوع إليه والاستسقاء منه، وحينها عمدوا إلى إيجاد الخلافات البينية وتأجيج الحروب الداخلية التي تضعف البلاد بعد تقسيمها وتزرع العداوة والبغضاء بين أبناء الأمة الواحدة، ثم زادوا الحرب استعارا بإنشاء فرق متطرفة مغالية تحمل شعار القتل والذبح لتبطش بالمسلمين قبل غيرهم، وتسفك الدماء وتمعن في القتل بأبشع الصور متخذة نصوص الدين أدلة لها على القتل وهنا كادت فعلتهم تنجح في ما يرومون من تشويه النبع حين استغرب المسلمون أنفسهم كيف يُقتلون بأيدي بعضهم وباسم دينهم ؟ 
وعلى هذا المنوال يسير الأمر اليوم! كل الشنائع ترتكب ثم تنسب إلى الإسلام وتنفذ بأيدي المسلمين وينفخ الإعلام الخارجي والداخلي المستأجر تحت النار في الهشيم ليجعل الإسلام دينا بلا رحمة ولا إنسانية، فيدفع بالمسلمين أنفسهم إلى التبرم من دينهم والاستهتار بقيمه وعقائده متخذين إلى ذلك كل الذرائع التي يروجها أعلامهم.
وهذا كله ليس مهما بقدر ما سيأتي فيما لو نجح أعداء الأمة فيما يفعلونه اليوم، حين يتنكر أبناء الأمة حقا لقيمهم وعقيدتهم، فيرفضون النبع ويغفلون عنه أبد الآبدين، ولكن سنة الله غالبة، فقد وعد عبيده بالاستمكان في الأرض مهما طال الزمان وهما كثر الكيد والمكر ضدهم، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التعطش للدماء!

ما يقوم به الكيان الصـ8ـيـ9ني من وحشية مفرطة في القتل، والتدمير، وسفك الدماء، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، إنما هو الوجه الحقيقي له و...